مكانة المعلقات في الشعر العربي
يعتبر شعر الجزيرة العربية القديم قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة، أعظم زهرة أدب برية مبهجة بإمكان الشرق إبرازها. مقارنة به، يتسم كل الشعر الأسيوي ببعض سمات الحديقة، حسن مظهر الوردة المستنبتة والياسمين والسوسن، غير أن شعر الجزيرة يتحلى بالجمال الهائم لسوسن الحقل، ليس هذا فحسب، بشيء أكثر برية، زهرة دون حقل بتاتاً، بل الصحراء الجرداء التي تكتسي بعد مطر الربيع وهلة أزهاراً غريبة فريدة لم تعد ترى. كل ما يمكن أن يشبهه بإنصاف هو الجزء الغنائي في الكتاب العبري المقدس القديم - أجزاء من كتاب أيوب، ومزامير داود دون ورعها، نشيد أشاد سليمان دون معناها الصوفي. أوروبياً لعل أقرب نظير لها يمكن أن يوجد في أشعار الايرلنديين السلتين قبل المسيحية، التي من غريب الصدف جاءت في فترة زمنية مماثلة وفقدها ظرف مماثل حافزها الطبيعي الجامح عند اعتناق شعرائها الملحميين الوثنيين ديانة جديدة مهيمنة.
لا نعرف شيئاً عن التاريخ المبكر لشعر الجزيرة القديم باستثناء أنه إنتاج فطري للأرض العربية، ليس عديم الارتباط بحضارة اليمن الأولية، كما حصل على أهمية جديدة عند التشتت التاريخي للقبائل اليمنية في القرن الثاني من العهد المسيحي وتأسيس المملكات العربية في الشمال، الغساسنة والحيرة. في الزمن الذي كتبت فيه أول قصائد نملك سجلاً لها، أي بعد ثلاثة قرون، كانت الجزيرة العربية ترزح تحت احتلال عشائر ريفية إلى حد ما، تتبع العادات نفسها وتتكلم اللغة عينها وترتبط بعهد الشرف ذاته في الحرب والسلام. كان لكل قبيلة "ديرتها" الخاصة لا تتجاوز الماشية والقطعان حدودها وخيام نسائها. لكن لم يلتزم كبار القوم، من أي عشيرة كانت بهذه الحدود. علاوة على الغزوات التي كانوا يقومون بها لعدة مئات من الأميال في وقت الحرب، كانوا يسافرون بعيداً في وقت السلام وحيثما لم تكن هناك دماء ثأر، يمرون من قبيلة إلى أخرى متمتعين بالكرم وباحثين عن المغامرات ومرددين، بالموهبة التي ملكوها، إلقاء قصائدهم. حين أصبح مثل هؤلاء المغنيين والمحاربين معروفين وعمت شهرتهم في الخارج، تنافس شيوخ القبائل في استقبالهم، وود ملوك العرب الغساسنة وفي الحيرة على وجه خاص جذبهم إلى بلاطهم. شعر الأمراء بمتعة ثقافية حين يحاطوا هكذا بمن يشبع غرورهم ويزيد من تأثيرهم. حصل شعراء الجزيرة على معرفتهم بالعالم الخارجي بشكل غير مباشر عبر هذين البلاطين المتنافسين. تبع أمير الغساسنة قيصر روما البيزنطية. تسمع في شعر الجزيرة العربية أصداء خافتة للأسماء الإمبراطورية اللامعة، لكنها مجرد أصداء تأتي من البعيد وتستقبل من قبل وسيط بشكل مباشر.
لا يصعب على من يسافر في شمال نجد أن يكون صورة لنفسه في ما كان البلاط الأميري آنذاك، الذي لا يمكن أن تكون مختلفة جداً عن بلاط ابن سعود وابن راشد اليوم. احتفظ الأمير، نصف بدوي ونصف حضري، بصفاته الصحراوية وكان شيخاً لقبيلته النبيلة، وثرياً بفضل محصول غلته. كان في المدينة، حيث شيد لنفسه حصناً، حاكماً وسيداً وملكاً. أخذ جزيته في الصحراء عبر قوة ممتطي إبله وخيوله. حصل ضريبته من السكان المقيمين على حافة الصحراء بواسطة حراسه العرب من جنود المشاة. شهدته شهور البرد والقيظ الملتهب مقيماً للعدل يومياً في قلعته، بينما الربيع والخريف شهداه في خيامه أو على ظهر جياده غازياً أعداءه. كان العرب الغرباء يجيئون ويذهبون، يستقبلون ويغادرون كما يريدون، بعضهم ينشد مديحه مقابل ما يعطى من هبات سخية وآخرون ساخطون لأنهم أهملوا، كلهم سواسية في عدم الهيبة من السلطة، عملاً وقولاً. كانوا صقوراً بريش هائج لا يروضون بالتهديدات أو تزلف الخدمة الدائمة. وهكذا يجد المرء في هذه الأيام، حتى في مصر التي يحكمها الإنجليز، بعض البدو من وسط الجزيرة العربية، أشخاصاً ضالون من قبائل مطير وحرب والعتيبة، متجمعين في شبه عمل حول بلاط الخديوي في القبة. قد يعثر بينهم هنا وهناك على شاعرٍ، هنا وهناك عازف ربابة، كلهم فرسان. يأتون ويعملون فترة " كراكبين " يمتطون مهور الخديوي وإبله. إنهم مظاهر زينة بملابسهم الزاهية ومعداتهم، فرسان مهرة وأمناء في خدمتهم. لكنهم لا يتنازلون للقيام بالأعمال اليدوية، ولا التدرب كجنود أو النوم في البيوت وارتداء الثياب الرسمية. وعند أدنى هبة فارغة يفرون. يذهبون من القصر ويذمون الأمير أو يمدحونه بصراحة، لا يغريهم بالرجوع ثانية لا مال أو تفكير بالخوف أو الهبة.
كان شعراء الجاهلية، كما دعاهم الكتاب المسلمون، أحياناً أمراء أو من عائلة أمراء. كانوا على الأقل سادة أحرار بالدم والسلالة، لا يحط كد من قدرهم، يتجاهلون " نبل العمل ". كانوا محاربين وفرساناً رحالين، أبطال قصصهم الرومانسية، متأهبين بالحسام والرمح، فرساناً وممتطي إبل، يعيشون في الخيام من طفولتهم ومتمرسين على الأعمال الجسدية الشاقة بكل أشكالها. يقومون بالأعمال الصعبة في الهواء الطلق، لم يكن أسياد الغناء الصحراوي الشجعان هؤلاء مجرد منحلين " المغنين الكسالى ليوم فارغ "، بل رجالاً مصممين على عيش كل ساعة من حياتهم اللاهية، والاستمتاع بكل متعة تقع تحت أيديهم لتحقيق أقصى مسرة. لا نجد هنا شيئاً من الكآبة الأوسياناكية (أوسيان: شاعر وبطل ايرلندي- المترجم) التي عند شعرائنا الملحميين القدامى، لا شيء من الشكوك الخرافية ورعب الضمير كما في أوروبا العصور الوسطى من مخاوف عذاب ما بعد القبر، لا شيء من القيود الدينية لشعر المسلمين لاحقاً. قاموا بصراحة وشجاعة مذهلة بكل ما فيه متعة ولذة.
كان العرب الأوائل، كما زالت سلالاتهم البدوية الحقيقية، ماديين بكل ما في الكلمة من معنى. لم يؤمنوا لا بالجنة ولا بالنار ولا بأي حياة بعد التي كانوا يستمتعون بها. في الدين لم يفهموا شيئاً سوى توحيد مبهم ملطف بوثنية تكفي للقسم بها، وإن لم تكن كافية لتطويع حياتهم وفقها. كانوا أقل البشر إيماناً بالخرافات، وأقلهم تأثراً بالخوف من الصنم ورعب الغول. كان من عادتهم الخروج في الليل وقضائه في طرب وغناء جالسين حول نار المخيم تحت النجوم ، ثم النوم في النهار، نمط من المعيشة لا يترك فسحة لتصورات الأشباح التافهة التي تولدها أساليب العيش داخل البيوت والخوف من العتمة. لم تكن هناك خشية من الوحدة، أو رهبة من الجبال التي هيمنت آلاف السنين على العقل الأوروبي، وحولت حقول الثلج في الألب وغابات الصنوبر الشاسعة في ألمانيا إلى الموطن المرعب للقوى والأشكال الخرافية التي ينبغي تجنبها. ابن المدن في الشرق، قاطن بيوت الحجر والطوب هو من يرتعد عند التفكير بالجن، وليس ساكن " بيت الشعر ". يعرف البدو صحراءه حق المعرفة فلا يخاف منها. كثيراً ما مكث وحيداً في ليل ونهار جباله دون حلم بأنها مسكونة بما هو غير طبيعي. يقرأ الأصوات التي يسمعها في العتمة في صباح اليوم التالي، كما لو أنها في كتاب، ويفسرها بالآثار التي خلفها متعقب الفريسة على الرمال. ليس هناك من صوت في كل الصحراء يجهله، أو غير مألوف منذ الطفولة، ولا يرجعه دوماً إلى مسببات طبيعية. لماذا عليه الشعور بالخوف إذاً? غياب القوى غير الطبيعية هي السمة المميزة للشعر الجاهلي، سمة تناقض كل الشعر البدائي الآخر.
في الأخلاق، يقف عرب ما قبل الإسلام، بالرغم من بعض الهفوات، في مرتبة فذة أعلى من أي جيران لهم في آسيا. مع ذلك ما يجدر ذكره أن قانون سلوكهم لم يقم على وازع ديني، بل يجاهر بشرف الفرد والقبيلة، بعبارة أخرى، يقوم على الاعتقاد التقليدي. المناقب التي عشقوها كانت الشجاعة والكرم وسخاء الضيافة وحماية الضعيف وكل من يستجير بهم، واستعدادهم لعون الصديق والثأر من مرتكب الخطأ، والتضحية الفورية من أجل القبيلة في الحرب والسلام. كانت شجاعتهم من نوع يختلف ربما عن التي نقدرها نحن. كانت بسالة شعب عصبي سريع الهياج ويتطلب مشاهدين وصوتهم الداخلي لتقديم أفضل ما في حوزتهم، استخفاف قبل المعركة وتفاخر مفرط بعدها. نادراً ما كانوا بحاجة لتوبيخ نسائهم الساخر لمقابلة أعدائهم أو منعهم من الفرار. ما زالت من عادة القبيلة في الجزيرة اصطحاب النساء في الحرب لحث المتقاعسين على القتال برجولة، وأخذ فتاة معهم تمتطي جملاً لتغني وتصرخ بهم حين يحمى وطيس المعركة. وهكذا لا يخشى رجال القبائل اليوم الموت ولا الجراح ويصبحون أبطالاً.
في كرمهم أيضاً خيلاء تقوى في حضور الأصدقاء. يهب الشيخ العظيم، حتى لو كان في داخله بخيلاً، العطاء بسخاء أمام الملأ وذلك لاحترامه في عيون جيرانه ولأن سمعة اليد المفتوحة تكسبه عديداً من الموالين. لعل الحافز ليس سامياً، لكنه مفيد في مجتمع يعتبر العطاء أعظم من الاحتفاظ بالأشياء، واليد السخية عند بعضهم سخية حقاً. الفضيلة الغالبة في الجزيرة هي الضيافة. من العار على أفقر الناس وأحقرهم صد الغريب، ولا يرد أحد غريباً عن باب خيمته حتى لو كان وحده. يتدخل الضمير ويمنع ما قد يمس الشرف. ثمة مسألة أخرى تتعلق بالضمير وهي الأخذ بالثأر. تصبح هذه في التفكير العربي النبيل حافزاً حماسياً، ضرورة جسدية تقريباً، تحرم صاحبها إن لم تطع من النوم والطعام والصحة وتحيله إلى رجل بائس. وبالمثل كذلك، وإن كان على درجة أقل، عون الضعيف وحماية المستجيرين الذين يلقون بأنفسهم تحت عباءة الحامي حتى لو كان عدواً. في كل هذه الحالات يتصرف العربي الأصيل وفق المبادىء التي يكون من السخف عدم اعتبارها أخلاقية، ومع ذلك ليست ملزمة للمسلمين عموماً، ولا تمارس بأمانة في أي مكان في غرب آسيا بل في الجزيرة العربية فقط.
في ما يخص المرأة، كان عرب الجاهلية مخلصين وعمليين. لم تكن الفتيات والنساء الكبيرات في القبيلة عبيداً كما في أوروبا البدائية، بل نساءً أحرار المولد يتمتعن بحق الاختيار قبل الزواج وترك البيت إذا شعرن بعدم الرضا بعد الزواج. كان لهن اعتباراً عند الرجال ومركزاً اجتماعياً أفضل ليس من النساء في معظم بلاد الشرق الوثنية، بل حتى من المسيحيات المعاصرات لهن آنذاك. تحلى عديد منهن بالشجاعة والثقافة، إذا أمكن استخدام الكلمة مع من لا يحسن القراءة والكتابة مثل أزواجهن وعشاقهن. وعليه، وجد العرب مادة رومانسية محلقة في نسائهن بني عليها نظام الفروسية الكامل، الذي اعتدنا على اعتباره الوضع المسيحي في النظر إلى الأشياء، بينما في الواقع وفي خطوطه الخاصة ما قلدته أوروبا العصور الوسطى وطورته أصلاً من الأنموذج العربي القادم إلى إسبانيا عبر إفريقيا. ترحال الفرسان، التجوال على صهوة الجياد بحثاً عن المغامرات، إنقاذ السيدات الأسيرات، المساعدة التي تقدم في كل مكان لنساء في محنة، كل هذه في الأساس كانت أفكاراً عربية، مثل اسم الفروسية نفسه، ربط السلوك المشرف بممتطي الخيل، رجل نبيل الدماء، الفارس. السلالة، الفخر بالذرية، الإيمان بنوعية الدم، تورث من جيل إلى جيل كشيء سامٍ إما في الثروات أو الفوائد العرضية الأخرى، وتمنح صاحبها صفات أخلاقية يستحيل على السوقي الحصول عليها، لم تكن هذه إلا عربية، وإذا حدث وإن وجدت أصلاً في أي مكان بين غير العرب، لا يكون الاعتقاد بها قوياً كما عند العرب. يبقى التفاني في حب امرأة نبيلة، بعرقها وأهلها النبلاء موضوعاً يسهب شعراء الحب فيه، ويوضع في المقام الأول في كل قصائد المعلقات. في الوقت نفسه، ثمة اختلاف بين تفاني العاشق العربي ومقلده الأوروبي، الفكرة تكمن في الفكرة المسيحية المتعلقة بكبح النفس عن الشهوات الجسدية كفضيلة خاصة لا تدخل قط في فكرة العربي عن الحب. أحب التروبادور (الشاعر الجوال) العربي الاستمتاع بحبهم وكذلك في قوافيهم تجد المرأة القاسية المزدراة مكاناً ضيقاً في شعر ما قبل الإسلام، إذ إنهم فضلوا المرأة اللطيفة التي شاء القدر فراقهم عنها. إلى حد ما، المرأة المحبوبة المفقودة دوماً ما تندب من قبلهم بشوق حار. من أجلها يقومون بأعمالهم الخالدة ويحتفون بها في أكثر أغانيهم الباقية، ذكرى فترة من زواج قصير الأمد قضي في عزلة تامة في الصحراء في وادٍ مطبق بتلال مقفرة لا تخضر إلا بضعة أسابيع في الربيع، ثم تضيع وتترك بلا جمال.
لا يوجد مكان على وجه البسيطة كالصحراء العربية، حيث يعيش الحب في مثل هذه الظروف العسيرة المحببة، وحيث تشبك العزلة الهائلة أرواح الرجال والنساء ويعتمد كل منهم على الآخر بسبب الضغط المتواصل للمخاطر المادية. يصبح كل " بين شَعر " حصناً في البرية، ينصب في وادٍ ناءٍ ضد قوى الطبيعة ويبقى هناك كحامية لساكنين اثنين. في السهل المنبسط بجماله البري الشح، تصبح لكل شجيرة وحجر وخنفسة وسحلية وآثار اليربوع النادرة والغزال أو النعامة على الرمل، قيمة تذكر ربما بعد سنوات، بينما تبقى حجارة الموقد السوداء والمهجورة دليلاً على فترة الحب القصير. تجتمع القبيلة عند الترحال فقط، يقود الرجال قطعان الماشية وتجلس النساء في الهودج على ظهر أطول جمل، يغنين أثناء المسير. ذاك منظر خلاب دوماً، يعمر في الذاكرة عندما تنتهي الخيوط المجتمعة في الوديان عند المغيب وعلى قمم التلال والذاهبة إلى المراعي الجديدة. هذا ما أنشده زهير في معلقته. رحلت أم أوفى، المرأة التي أحب وأنجبت له ابناً. تركته طواعية ربما لخطأ ارتكبه، أو ظروف قاسية، لكنه لن يراها ثانية. لا تبلغ رومانسية البدو نقطة أعلى من هذه. الحب لا يمسه إن كان دون طائل. في الواقع، ليس هذا الحب الحلو الوحيد، لكنه دوماً الموضوع الرئيس لهؤلاء الشعراء الهائجين. كثيراً ما تذكر العاطفة من أجل المتعة والمغامرة، والتبجح بخدمات منحت أو جنيت. لا ينبغي على قارىء المعلقات توقع العثور فيها على دماثة المتوددين في غرف الاستقبال عندنا، ولا وجود فيها لحب الملائكة والغلمان.
لم يملأ الحب، من أي نوع، مادي أو مثالي، مجال الرؤيا كلها للمنشد البدوي. كان تعامله مع الرجال دوماً أكثر أهمية، وما شغل فكره، إذ إليهم يعود من رحلاته القصيرة إلى مملكة الرومانسية. إذا تباهى أحياناً بانتصاراته في الحب، فإنه يتفاخر عشر مرات أكثر لانتصاراته في ساحة الوغى، في خيمة المداولة كمرحب بالضيوف وحتى، يا لعاره، كمدمن شراب النبيذ. أعتبر شرب النبيذ في الجزيرة قبل الإسلام اختباراً لنزوة نبيلة، ولا يشوه سمعة نبيل شاب تبديد ثروته على دعوات صحبه على قشر العنب المعصور المزال منه الصمغ، الذي كان يباع في المزاد في محل بائع النبيذ، حتى بعد ذهاب الجميع. هذا، بالإضافة إلى حب لعب الميسر، التغير الرئيس في أخلاق عربي المعلقات والعربي المعاصر، حيث الخمر والقمار غير معروفين. توجد الشوائب الأخلاقية الكثيرة في القصائد، ولا يتمنى المرء عدم وجودها لأنها تظهر واقع الحياة الموصوفة. الواقعية الحيوية المدهشة هي بالفعل سمتهم الأساسية. قد نغفر لهؤلاء الشعراء عندما يخبرونا عن هفواتهم ضمن الصور الرائعة التي قدموها لنا عن المناظر والأصوات وعجائب الطبيعة في الصحراء المألوفة لديهم. لا نجد حتى في كتاب داود تقديماً أفضل لحياة من يسير على أربعة كالذي في المعلقات. يوصف الحصان والجمل والظبي والذئب مراراً وتكراراً وكذلك الحمار الهائج وأروع المخلوقات، النعامة وصغارها. ما الذي لا نقدمه لقاء صور موصوفة للثور البري في أوروبا والإلكة والقندس والدب بهذه القيمة الطبيعية عند شعرائنا القدامى ? عاش شعراء الجاهلية مع هذه المخلوقات البرية الحية، ووصفوها بالإضافة إلى العواصف التي كانت تدمر قراهم بين الفينة والفينة وتخفي في ليلة حجارة مخيمهم الذي يذكر بشكل مؤثر، قيظ الشمس أثناء سيرهم الطويل في النهار، والنجوم معلقة فوق رؤوسهم كقناديل من القبة الزرقاء، وترى السفن من سواحل البحر، لكن العودة ثانية إلى إبلهم وجيادهم هي ما تعود دوماً أفكارهم إليه ولا يكلون من وصفها أو يخشون إرهاق سامعيهم بذكرها.
هذه حالة الجزيرة قبل الإسلام وهذه طبيعة شعرائها. أشهر ما برز من بينهم كان كتاب المذهبات السبع المعروفة أيضاً بالمعلقات. ما يعرف تقليدياً عنها أنه في السوق السنوي في عكاظ غرب نجد، كان كل شاعر يلقي بقصيدة تعرض على الجمهور الذي يصوت لتقرير جدارتها، ويحكم لاحقاً بأنها الأفضل فتكتب بالذهب وتعلق في الكعبة في مكة. لذا، دعيت بالمذهبات أو المعلقات. مع ذلك، ثمة شك كبير إن كانت هذه القصة صحيحة بحذافيرها. الدليل الوحيد المدون من قبل المعلقين في أوائل الإسلام موجود في كتاب " الأغاني " لأبي فرج الأصفهاني، الذي كتب في القرن الثالث الهجري بناءً على مرجع يعتبر صحيحاً أن عمر بن كلثوم ألقى قصيدته بنفسه وكذلك رجال قبيلته في عكاظ في مكة. ليس هناك ما يشير في هذا النص إلى أن القصيدة كتبت وعلقت في الكعبة أو أي مكان آخر. الأرجح أن القصة محاولة من قبل الدارسين في فترة لاحقة لإيجاد معنى للعناوين المبهمة التي أعطيت للقصائد لتنسجم مع الأفكار الإسلامية المعاصرة. أشار السير تشارلز لاأول في دراسته الشاملة حول الموضوع أن فن الكتابة كان قليل الممارسة من قبل العرب الوثنيين، إن لم نقل غير معروفاً. في حين كان التلميح إلى الكتان المصري وحروف الذهب أمراً مشكوكاً فيه، كما أن هذا يفترض وجود فترة كان فيها تفاعل الجزيرة مع مصر أقرب مما هو عليه في أيام ما قبل الإسلام.
اعتبرت المعلقات قصائد كلاسيكية، ورفعت كتابها إلى مرتبة أشهر الشعراء في الجزيرة العربية الجاهلية. يعتقد أن أولها، معلقة أمرؤ القيس، كتبت قرابة العام 545 الميلادي، وآخرها معلقة زهير قرابة العام 605 أي قبل ظهور الدعوة الإسلامية بعشرين سنة.