دبليو إي كلوستون:
قال كلوستون في كتاب من تحريره وتقديمه عن الشعر العربي: كان طرفة بن العبد من قبيلة مزينة، أحد فخوذ قبيلة بني بكر، لذا سمي المزاني. أثبت نبوغه الشعري في سن السابعة حين كان مسافراً مع عمه والقافلة تستريح في الليل على ضفاف جدول صاف، وضع طرفة شركاً لصيد القبرة، لكنه لم يفلح. عندما عزمت القافلة على الرحيل ثانية عبر الصبي عن المناسبة بقصيدة.
يعود سبب نظم المعلقة إلى ضياع إبله وإبل أخيه. قال سي. دو بيرسيفال إن عمرو بن المرتضى، شيخ مدحه طرفة في معلقته قد أرسل إلى طرفة قائلاً إن الله وحده من يمنح الأبناء، لكن في الأمور الأخرى سيعامله كواحد من أبنائه. ثم أرسل الشيخ في طلب أبنائه السبعة وأحفاده الثلاثة وأمر كلاً منهم بتقديم عشرة جمال إلى الشاعر، وبذلك عوض خسارته التي لامه أخوه عليها.
أهم حدث في حياة طرفة القصيرة كان موته المأساوي. أرسل عمرو ملك الحيرة طرفة والمتلمس، شاعر مشهور أيضاً، ليرافقا أخاه الأصغر قابوس، الذي كان يحضره لخلافته. يبدو أن قابوس كان مدمناً على الشراب وكثيراً ما يكون ثملاً. هجاه الشاعران وهجيا الملك أيضاً. غضب عمرو بسبب هذه السخرية فأعطى كل واحد منهما رسالة إلى حاكم البحرين أمره فيها بقتل حاملها. شك المتلمس في نوايا الملك ففتح الرسالة وعرضها على صديق قرأها له. عندما علم بما جاء فيها مزقها ونصح طرفة بالعودة معه. لكن طرفة اعتقد أن قارىء الرسالة قد خدع صديقه فرفض الاستماع إلى النصيحة وأكمل رحلته المميتة. عند تسليم الرسالة قام حاكم البحرين بتنفيذ ما جاء فيها. قطع عمرو يدي ورجلي طرفه ودفنه حياً. كان طرفة في السادسة والعشرين عندما قضى.
قال عبد القادر فيدوم في دراسة له عن شعر طرفة: يحتل طرفة عند العلماء منزلة تلي امرؤ القيس كشاعر جاهلي، ليس لشعره الذي وصلنا، بل للقصائد التي فقدت. يضعه "المفضل" بين أساتذة المعلقات السبع التي يدعوها العرب "الصموت" خيوط العقد. كما يعتقد أن هذه المعلقة أكثر انتظاماً في بنيتها من كل المعلقات الأخرى، نظرة نقدية لها وزنها في كل المدارس. أما بالنسبة للقارىء الإنجليزي، فإن هذا التفوق أقل وضوحاً. من المؤكد أن مطلع معلقة طرفة انتحال من معلمه العظيم امرؤ القيس ولا يبرر أي جمال فكري خاص أو أسلوب بياني، الحكم على ما تبقى من القصيدة. كان وضعها في شكل إنجليزي مقروء، مهمة صعبة.
كان طرفة، الذي اسمه الحقيقي عامر بن العبد، شاباً عاصر امرؤ القيس وأقل الشعراء العرب قاطبة عمراً. يقال إنه قتل في سن السادسة والعشرين. كان من قبيلة ظبية من العائلة الحاكمة، شاباً بدوياً طائشاً، كما الحال الآن في الجزيرة، خصب الخيال، متهوراً ضالاً، متورطاً في شجار دائم مع الآخرين، سليط اللسان عنيف الطبع. يروى أن كان يملك قطيعاً من الإبل مع أخيه معبد, وكانا يرعيانه بالتناوب. لكن طرفة كان مهملاً ومغرماً بنظم الشعر فلم يقم بمهمته مما أدى إلى شجار يشار إليه في المعلقة. حين لامه معبد قائلاً هل يستطيع شعره إرجاع الإبل إن ضاعت، أجاب طرفة بعناد بنعم ورفض الإصغاء. وكما توقع معبد ضاعت الجمال يوماً في عملية سطو، فذهب طرفة ليثبت صحة ادعائه إلى أصدقائه وأقاربه طالباً المساعدة لاسترجاع الإبل، وكان منهم ابن عمه مالك، الذي وبخه لكسله وحماقته، توبيخ، يقال إنه سبب نظم المعلقة. ويروى أيضاً إن أحداً لم يساعده ولم تستعاد الإبل، لكن طرفة استطاع تنفيذ ما وعد به، إذ أن شيخ قبيلة وهبه مئة جمل عوض الضائعة إثر مدح طرفة له في قصيدة.
نهايته جاءت مأساوية. عند ذهابه إلى بلاط عمرو بن هند، ملك الحيرة، كان يجلس مع الأمير عندما مرت أخت الأمير، رأى طرفة ، بالرغم من عدم نظره إليها، عكس وجهها في قدح فضي كان يمسك به، فقال:
ألا يا ثاني الظبي- الذي يبرق شنفاه
ولولا الملك القاعد- قد ألثمني فاه
عندما نما هذا إلى مسامع عمرو لم يسره ذلك، ويقال إن طرفة، الذي لم تعد له حظوة عند الملك، هجاه وأتم بذلك إساءته. كتم عمرو مع ذلك غيظه وأرسل في طلب طرفة وشاعر آخر، خال طرفة المتلمس، الذي كان قد أساء إليه أيضاً، وأغدق عليهم العطايا وطلب منهم الذهاب بحجة إلى البحرين التي كانت آنذاك تحت حكمه. أعطى كل منهما رسالة لواليه هناك، كما لو كانت رسالة توصية. ذهب طرفة دون أي شك، لكن المتلمس، كونه رجل كبير السن وأكثر دراية بأساليب الأمير لم يكن راضياً، وقبل مغادرة الحيرة رأى فتح الرسائل لمعرفة ما فيهما. وجدا صبياً في أطراف الحيرة، مسيحي من العبادي، يعرف القراءة. فتح المتلمس رسالته طلب من الصبي قراءة ما فيها. أخبره الصبي أن الملك طلب من واليه قتل حامل الرسالة. ألقى المتلمس الرسالة في نهر الفرات وهرب. غير أن طرفة، من شدة ثقته بنفسه وظنه أن ابن هند لا يجرؤ على معاملته بالعنف لأنه من عشيرة قوية، ذهب إلى البحرين وقدم الرسالة للوالي. ولما كان الوالي، ربيعة بن الحارث، من أقرباء طرفة، فلقد حاول إنقاذه وتوسل إليه الهرب ليلاً قبل أن يعلم أحد بمجيئه. لكن طرفة رفض، ظنناً منه أن الوالي يريد خداعه لنيل الغنيمة بنفسه. وقال " والله، لن أفعل هذا، وأعطي عمرو ذريعة لقتلي إن هربت. في الصباح قبض عليه وسجن. اعتذر ربيعة من ابن هند قائلاً إنه لا يستطيع قتل قريبه. أرسل عمرو بن هند رجلاً من بني تغلب ليحل مكان ربيعة في البحرين وقتل ربيعة وطرفة. يقول بعض الناس إن من قتل طرفة كان من قبيلة الحوافر، التي دفعت دية دمه إلى والده لاحقاً. تختلف الروايات في ذلك. حسب بعض الروايات، أكثرها ثقة، قتل بالسيف، آخرون يقولون دفن حياً، بينما يقول آخرون سمح له بشرب الخمر حتى فقد وعيه وقطع شريان في يده حتى توفي. رثته أخته الخرنق بالبيات الحزينة التالية:
في ما يخص تاريخ نظم المعلقة، قد يكون ذلك في العام 550 قبل الميلاد، ويقول البعض إنها كتبت في الأسابيع الأخيرة من حياته عندما كان سجيناً في البحرين، غير أن فحواها لا يدعم هذا الرأي. من الواضح أنها قصيدة شاب يافع يعاني من مشاكله البدوية الصغيرة وشجاره مع أقربائه. ولعها نظمت في الصحراء قبل لقائه عمرو بن هند في الحيرة. الأبيات الوحيدة التي تلمح للبحرين هي التي يقارن هوادج نساء قبيلته بالسفن. لكن هذا بعيد جداً عن الحكم النهائي. من المؤكد لو أنها نظمت في فترة متأخرة أن غضبه كان سينصب على عمرو، الذي ظلمه أكثر من ابن عمه مالك، كونه شاباً طائشاً.
يقول المفضل صاحب " جمهرة أسفار العرب " عن اسم طرفة الصحيح هو عمرو بن عبد، مدعياً إن اسم طرفة اسم منتحل. لكن هذا الرأي غير مقبول ولا معنى لاسم طرفة، إن كان اسماً منتحلاً.
وتختلف المصادر الأدبية في تحديد سنة ميلاد طرفة بن العبد، إذ ليس من السهل تحديد تاريخ ميلاده تحديداً قاطعاً- خاصة- في مثل هذه الفترة التي نقلت إلينا عن طريق الرواية وليس عن طريق الكتابة. ويكاد يجمع الرواة والإخباريون على أن طرفة عاش على وجه التقريب ما بين 535- 568م، غير أن فؤاد افرام البستاني حاول أن يضبط تاريخ ميلاده فقال: "أما نحن فلا نرى بأساً في جعل مولد طرفة سنة 543م، إذ لا نعرف رواية تخالف ذلك، ولا نرى ما ينافيه من الحوادث التاريخية".
ومن الراجح أن يكون طرفة قد ولد في هذا التاريخ الذي حدده البستاني ب: 543م، باعتباره قال الشعر وهو صغير، ثم التحق ببلاط ملك الحيرة عمرو بن هند الذي قربه إليه في بداية الأمر، ثم ما لبث أن حقد عليه فأرسله إلى عامله بالبحرين ليقتله وذلك قبل انتهاء فترة حكم عمر بن هند سنة 568م، الذي حكم على وجه التقريب من سنة 554م إلى 568م، ومن ثم يكون طرفة قد توفي قبل هذا التاريخ بقليل.
وجاء في كثير من المصادر الأدبية القديمة أن طرفة يعود نسبه إلى بكر بن وائل، غير أن أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري استأنف في التعريف بنسبه حتى وصل به إلى عدنان فقال معرفاً به: "هو طرفة بن العبد بن سفيان، بن سعد، بن مالك، بن ضبيعة، بن قيس، بن ثعلبة، بن عكابة، بن صعب، بن علي، بن بدر، بن وائل، بن قاسط، بن نهب، بن أقصى، بن دعمي بن جديلة، بن أسد، بن ربيعة، بن نزار، بن معد، بن عدنان".
وبذلك ينتسب طرفة إلى قبيلة لها مكانتها المرموقة في التاريخ العربي القديم، ويظهر ذلك حين يفخر بأصله ونسبه، لأنه من بني وائل بن قاسط التي تفرعت من قبيلتي بكر وتغلب. فكان له الاعتزاز بانتمائه البكري من نسب الأب والتغلبي من نسب الأم، فجمع بين حيين عريقين لهما مكانتهما المسموعة. يقول في ذلك:
وتفرعنا من ابني وائل- هامة العز وخرطوم الكرم
من بني بكر إذا ما نسبوا- وبني تغلب ضرّابي البهم
وطرفة لقب غلب عليه، واسمه الحقيقي "عمرو" بن العبد، وقد سمي ب "طرفة" نسبة على "الطرفاء" وهو شجر الإثل، وذلك لبيت قاله:
لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا- ولا أميريكما بالدار إذ وقفا
وعاش طرفة يتيماً حيث فقد حنان الأبوة، إذ مات أبوه وهو صغير السن، فأراد أعمامه أن يقسموا له ما خلفه من مال، فقال هذه المقطوعة الشعرية في سن مبكرة، ناقماً على تصرفاتهم نحو أمه وإخوته الصغار:
ما تنظرون بحق وردة فيكم- صغر البنون ورهط وردة غيب
قد يبعث الأمر العظيم صغيره- حتى تظل له الدماء تصبب
والظلم فرق بين حيي وائل- بكر تساقيها المنايا تغلب
قد يورد الظلم المبين آجنا- ملحاً يخالط بالدّعافِ ويقشب
وقراف من لا يستفيق دعارة- يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
والاثم داء ليس يرجى برؤه- والبر برءٌ ليس فيه معطب
والصدق يألفه اللبيب المرتجى- والكذب يألفه الدنيُّ الأخيب
ولقد بدا لي أنه سيغولني- ما غال عادا والقرون فاشعبوا
أدوا الحقوق تفر لكم أعراضكم- إن الكريم إذا يحرب يغضب
ولعل موت والده وهو بعد صغير السن، وظلم أعمامه لأمه وإخوته الصغار هو الذي وجه الشاعر توجيهاً خاصاً، صبغ أدبه بالتأمل والتفكير في هذه الحياة، فكان أن حفزه ذلك إلى قول الشعر مبكراً، فضلاً عن كونه قد ورث ذلك من بيئة تمرس صاحبها بالشعر، فقد كان والده شاعراً، وكان أبوه العبد بن سفيان أخاً للمرقش الأصغر وابن أخ للمرقش الأكبر، وكلا المرقشين شاعر معروف، وكانت أمه وردة أخت المتلمس جرير بن عبد المسيح وهو شاعر معروف كذلك فضلاً عن أخته الخرنق الشاعرة، وجده لأمه عمرو بن قميئة الشاعر المشهور.
ويبدو أنه عاش في أسرة شاع الشعر وقوله بين أفرادها، مما يسر له قول الشعر وهو صغير، فكان لهذه الأسرة الأثر الكلي في تكوين ثقافته ونبوغه، كما جاء في رأي الباحثين من أن: ثقافة الشعر لطرفة تصله بالتراث الذي تطور في بطن قيس بن ثعلبة من بني بكر بن وائل، ولا تزيد البيئة العراقية إلى ثقافته تلك إلا لمسات خفيفة.
ويُروى أنه كان مع عمه في سفر، وهو بعد صغير السن، فأرادا أن يستريحا من عناء السفر فنزلا على ماء، فذهب طرفة بفخ له فنصبه للقنابر، وهو على ذلك ماكثاً معظم يومه دون أن يصيد شيئاً، وبعد يأسه من ذلك حمل فخه وعاد إلى عمه، فتحملا ورحلا من ذلك المكان، فرأى طرفة بعد ذلك القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب فقال:
يا لك من قبرة بمعمر-
خلا لك الجو فبيضي واصفري-
ونقري ما شئت أن تنقري-
قد رحل الصياد عنك فابشري-
ورفع الفخ فماذا تحذري-
لا بد من صيدك يوماً فاصبري-
وهي من الأراجيز الأولى التي قالها الشاعر، مما يدل على نضجه الفكري في هذا الأداء الفني الرفيع، وعلى الموهبة الناضجة.
ومما يذكر له أيضاً، وكان من باكورة نظمه، وهو ما تسجله الدراسات النقدية الحديثة في أنه من البذور الأولى للنقد عند العرب، وذلك حين سمع المتلمس ينشد هذا البيت:
وقد تناسى الهم عند احتضاره- بناج عليه الصيعرية مكدم
فصرخ طرفة منتقداً إياه، فقال جملته المشهورة "استنوق الجمل" أي خلط بين الناقة والجمل، إذ وصف الجمل بوصف الناقة، لأن الصيعرية توضع على عنق الناقة لا على عنق الجمل، فذهبت هذه المقولة مثلاً في الخلط بين الشيئين.
وكان طرفة معتزاً بنفسه، تائهاً فخوراً، مما جعله يتجرأ على أهله وذويه بعد أن حاولوا منعه من إسرافه في الشهوات وتبديده ما كان قد ورثه، فلم تجد قبيلته وأهله سبيلاً إلى ذلك سوى أن تفرده وتبتعد عنه، فاستشعر بالانعزال، كما جاء ذلك في قوله:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي- وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها- وأفردت إفراد البعير المعبد
فأحس بالضيق نتيجة هذا الانعزال، فاضطر إلى أن يهجر قريته وأهله رغم ما كان له من منزلة بين فقراء العشيرة الذين كانوا لا ينكرون إحسانه لهم، وأغنيائها الذين يلازمون صحبته ويحبونه.
رأيت بني غبراء لا ينكرونني- ولا أهل هذاك الطراف الممدد
ومع ذلك فلم يجد بداً من أن ينطلق عبر فلوات الصحراء، ناقماً على عشيرته التي لم توله أي اهتمام بسبب إمعانه في فرديته التي دفعته إلى المغالاة في الذاتية "وهي فردية كانت القبائل تنكرها وترى فيها إخلالاً بالعقد الاجتماعي القائم بينه وبين أبنائها والذي كان يفرض على شعرائها ذلك العقد الفني". عند ذلك ترك قومه وظل هائماً في الصحراء كما في قوله:
ولا غرو إلا جارتي وسؤالها:- ألا هل لنا أهل سئلت كذلك
تعيرني طوف البلاد ورحلتي- ألا رب دار لي سوى حر دارك
وليس امرؤ أفنى الشباب مجاوراً- سوى حيِّهِ إلا كآخر هالك
ولا أنيس له في الصحراء في ذلك سوى ناقته التي لازمته وأعانته على ترحاله، فكانت له رفيقة أمينة، وكان هو الآخر أميناً لها حيث صورها لنا بصورة حية مطيلاً في وصفها لما وجد فيها من الأنس والعون، فكان بفضلها أن طاف أرجاء الصحراء التي قذفته إلى بلاد اليمن وتجاوز ذلك إلى أن وصل إلى النجاشي في الحبشة، كما ذكر ذلك الأعلم الشنتمري في مقدمة قصيدة لطرفة.
ثم ما لبث أن عاد إلى قومه بعد أن فشل في كل المحاولات بشأن تحقيق أحلامه في تحسين وضعه أو فيما كان يصبو إليه- ظناً منه- في إيجاد عالم مثالي غير عالمه القاسي مع عشيرته. فلم يجد بداً من العودة إلى قومه وعشيرته، وهم في ذلك غير مبالين به سواء رجع أم تمادى في هجره إياهم، فكان مما قاله بعد عودته لهم.
ولقد كنت عيكم عاتباً- فعقبتم بذنوب غير مر
كانت فيكم كالمغطي رأسه- فانجلى اليوم قناعي وخمر
سادراً أحسب غيِّي رشدا- فتناهيت وقد صابت بقر
وساء طرفة أن يعود إلى عشيرته "بخفي حنين" لأنه يعلم جيداً أن لا شيء ينتظره سوى أن يحمله أخوه"معبد" رعي إبله.
وكانت الحيرة أيام عمرو بن هند موئلاً لكثير من الشعراء، لما كان يغدقه ملكها من عطايا وهبات جزيلة، مقابل أن يرفع الشعراء من شأنه. وقد أراد طرفة كغيره من الشعراء أن يجرب حظه مع عمر بن هند، لكن نخوة طرفة وأنفته لم تصبر على تصرفات الملك عمرو الذي كان شديداً، صارماً في حكمه، لا يبتسم ولا يضحك، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة، وتهابه هيبة شديدة، بل جعلوه شريراً "وكان له يوم بؤس، ويوم نعيم، فيوم يركب في صيده يقتل أول من يلتقي به، ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له وكان هذا دهره".
وفي رواية أخرى عن أحمد بن عبيد قال: "كان إذا ركب في يوم نعيمه لا يلقى أحداً إلا أعطاه ووهب له وقضى في حاجاته، وإذا ركب في يوم بؤسه لم يلق أحداً إلا قتله".
مكث طرفة في بلاط الحيرة واستقبله عمرو بن هند بحفاوة وقربه إليه وكان من ندمائه أخوه قابوس، وبعد أن رأى طرفة من عمرو بن هند ما ساءه فاضت قريحته شعراً، فهجا عمرو بن هند وهجا أخاه قابوس.
وقد كثرت اختلافات الرواة بشأن قصة طرفة مع الملك وسبب هجائه له، كان تلخيصها فيما يلي: تذكر معظم المصادر القديمة التي أوردت خبر طرفة أن سبب هجائه عمرو بن هند هو أن عمراً هذا كان يتباطأ في استقبال الناس وخصوصاً الشعراء الذين جاءوا من كل مكان رجاء عطاياه، إذا به يتأخر في استقبالهم، فصاروا يتكالبون على بابه ليجدوا وقتاً يدخلون فيه عليه، فاستاء طرفة من هذه المعاملة وقال شعراً يهجوه فيه. وربما كان من سبب غضب عمرو بن هند على طرفة أنه قال شعراً في أخيه قابوس الذي كان يحب الصيد وشرب الخمر، وكان أن قسم الدهر-هو أيضاً- يومين، يوماً يصيد فيه ويوماً يشرب فيه، وكان يتأخر في استقبال الشعراء إلى العشي، فتذمّر طرفة من هذه المعاملة فهجاه وهجا أخاه عمرو بن هند بقوله:
وليت لنا مكان الملك عمرو- رغوثاً حول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند- ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخيّ- كذاك الحكم يقصد أو يجور
وفي رواية أخرى أن طرفة لما أضاع إبل أخيه معبد ادعى جوار الملك عمرو، وكان قد تباطأ في رد الإبل إلى طرفة انتقاماً منه لأنه كان في مسيرة مع عمرو بن أمامة، فأضم عليه، أي حقد عليه- وكانت أول موجدة عليه، فبعث عمرو بن هند إلى إبل طرفة التي كانت في جوار قابوس فأخذها فقال طرفة:
لعمرك ما كانت حمولة معبد- على جدها حرباً لدينك من مضر
وكان لها جاران قابوس منهما- حذار ولم استرعها الشمس والقمر
وعمرو بن هند كان ممن أجارها- وبعض الجوار المستغاث به غرر
فمن كان ذا جار يخاف جواره- فجاراي أوفى ذمة وهما أبر
أعمرو بن هند ما ترى رأي صرمة- لها شنب ترعى به الماء والشجر
ويذكر ابن قتيبة رواية مفادها أن طرفة كان ينادم عمرو بن هند فأشرفت ذات يوم أخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده فقال:
ألا يا بأبي الرِّيم- الذي يبرق شنفاه
ولولا الملك العالي- لقبّلت له فاه
فحقد ذلك عليه.
وتجتمع هذه الأسباب كلية في أن عمرو بن هند كان ناقماً على طرفة، فحاول التخلص منه بعد أن تسربت له كل الأشعار التي هجاه فيها عن طريق عبد عمرو الذي يعد من سادة الناس آنذاك مما جعل عمرو بن هند يقربه إلى حاشيته، وكان زوجاً لأخت طرفة، وقد هجاه طرفة ذات يوم، وكان مما قاله فيه:
يا عجباً من عبد عمرو وبغيه- لقد رام ظلمي عبد عمرو فانعما
فشاع هذا النوع من الهجاء في عبد عمرو بين الناس، وبلغت مسامع عمرو بن هند واتفق أن خرج الملك ذات مرة إلى الصيد وخرج معه نفر من حاشيته وكان من بينهم عبد عمرو وصهر طرفة، وكان الملك قد أصاب طريدة فنزل وقال لأصحابه اجمعوا حطباً، وفيهم عبد عمرو فأوقد ناراً وشوى، فبينما الملك يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم له الطعام، إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقاً فأبصر كشحه، وكان من أحسن الناس كشحاً وجسماً، وكان طرفة قد قال فيه:
ولا خير فيه غير أنّ له غنى- وأن له كشحاً إذا قام أهضما
فتمثل الملك بهذا البيت سخرية منه، فغضب عبد عمرو وقال: قد قال طرفة للملك أقبح من هذا! فقال الملك: ما الذي قال? فندم عبد عمرو مما سبق منه وأبى أن يسمعه، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن، فأسمعه القصيدة التي هجاه فيها فسكت عمرو بن هند على وقر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لفطنة أحد جلسائه الذي نبهه وقال له: إنك إن قتلت طرفة وأبقيت المتلمس هجاك وانتقم منك لما له من مكانة، بحكم كونه مجرباً ومسناً، وكان المتلمس قد هجا عمرو بن هند ? أيضاً- بعدة قصائد فلبث الملك يتريث الفرصة السانحة للانتقام منهما، حتى اطمأنا إليه، فلما قدما إليه ذات مرة كتب لهما صحيفة إلى عامله بالبحرين، وكان يوم ذاك ربيعة بن الحارث العبدي، وقال لهما الملك انطلقا إليه، فإن في هذه الصحيفة أمر بجوائزكما أي أنه أوهمهما أن في كتابيهما أمر بمنح جائزة لكل منهما.